عبدالله أمين الحلاق
لا يمكن الحديث عن القضية الفلسطينية، من دون أن نتكلم عن الارتباط الكبير بينها وبين كل القضايا والمسائل في المشرق العربي، أي سوريا ولبنان والعراق وحتى الأردن. وخصوصاً في سوريا اليوم. سأتكلم اليوم عن سوريا، بالرغم من أن مناسبة الحديث في هذه الأمسية هي ذكرى مرور 70 عاماً على النكبة، أي على قيام وتأسيس دولة إسرائيل. والكلام عن سوريا بعد عام 2011 وقبل عام 2011 لا بد أن يتعلق بفلسطين، وذلك من نقطتين
النقطة الأولى، هي في أن النظام السوري هو نظام اعتمد في حكمه لسوريا على قضية فلسطين، وعلى ادعائه أنه نظام مقاوم لإسرائيل وللمصالح الامريكية في المنطقة. أما النقطة الثانية، فهي في وجود عدد كبير من الفلسطينيين، أو من يسمّون بالفلسطينيين السوريين، في عدة مناطق وبلدات سورية، وفي دمشق خصوصاً، وهؤلاء كان لهم حضورهم ودورهم الكبير في سوريا بعد الثورة. كان هؤلاء الفلسطينيون يعاملون كالسوريين، من ناحية تعاطي النظام وتعامله مع عموم السوريين، قهراً وإذلالاً وقمعاً وحرماناً. ومع السوريين الموالين له بإعطائهم المميزات والسلطة.
بعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، كانت معظم البلدان العربية قد نالت استقلالها عن الكولونيالية الفرنسية والبريطانية بشكل أساسي. استقلت سوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946، وبدأت ملامح دولة جديدة تتشكل في ذلك الوقت.
في سنوات الخمسينات، كانت سوريا قد بدأت تعيش حياة برلمانية ديمقراطية، وتطورت الحريات السياسية والاجتماعية بشكل واضح. في عام 1963، وصل حزب البعث إلى السلطة بانقلاب عسكري، وحزب البعث هو الحزب الذي ينتمي إليه حافظ الأسد، والد بشار الأسد. قام حافظ الأسد بانقلاب على رفاقه في عام 1970 وتحول إلى الحاكم المطلق والحديدي في سوريا منذ عام 1970 وحتى وفاته عام 2000، حيث تم تسليم السلطة بالتوريث وبالإرغام والقسر ومن دون انتخابات إلى ابنه بشار.
اعتمد حكم حافظ الأسد على المتاجرة بقضية فلسطين وبقضية “المقاومة” لتثبيت نظامه الشمولي والاستبدادي داخل سوريا. تحول الداخل السوري إلى مجتمع يعيش وفق الانضباط العسكري في المدارس والمنظمات وغير ذلك. أكبر مثال يمكن ان نضربه على ذلك كان عام 1976، وهو تاريخ دخول القوات السورية إلى لبنان. أي بعد بداية الحرب الأهلية في لبنان بعام واحد “1975”. في الحقيقة، دخل النظام السوري إلى لبنان عسكرياً بموافقة أمريكية، وكان حافظ الأسد رجل اللعب على التناقضات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. دخل الأسد إلى لبنان تحت حجة “حماية المسيحيين” في الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأ بضرب وتصفية الحركة الوطنية اللبنانية اليسارية المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية، أي مع ياسر عرفات.
كان زعيم الحركة الوطنية اللبنانية هو كمال جنبلاط، وهو من رموز اليسار والاشتراكيين في لبنان. قام النظام السوري باغتيال كمال جنبلاط في آذار 1978. الضابط السوري الذي نفذ عملية اغتيال كمال جنبلاط اسمه إبراهيم حويجة، وهو كان ضابطاً في القوات السورية في لبنان في ذلك. وضرَب الأسد رموز الحركة الوطنية واليسار والفلسطينيين في لبنان أثناء الحرب، وحاصر مخيم “تل الزعتر” جنباً إلى جنب مع ميليشيات مسيحية مارونية، وقُتل 3000 فلسطيني في المخيم بعد حصاره لــ 52 يوماً.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وسقوط بيروت في يد إسرائيل، تحول الأسد إلى ضرب المسيحيين بعد أن فرغ من اليسار والفلسطينيين، وبعد خروج “منظمة التحرير الفلسطينية” إلى قبرص ثم إلى تونس. ومن المعروف أن النظام السوري هو من نفذ عملية اغتيال الرئيس اللبناني المسيحي بشير الجميل، ونفذ العملية شخص مقرب من شخصيات قيادية في “الحزب القومي السوري الاجتماعي” اسمه حبيب الشرتوني، وهو مقيم حالياً في سوريا وبحماية النظام وبشار الأسد. وفي عام 1990، حاصر الجيش السوري قائد الجيش اللبناني ميشال عون في قصر بعبدا، حتى هروب عون إلى فرنسا في ذلك العام، ولم يعد حتى انسحاب النظام من لبنان عام 2005.
بعد الاجتياح، تشكلت “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” ضد إسرائيل، بمبادرة من الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي. كان حافظ الأسد يريد احتكار المقاومة ضد إسرائيل بيده، وكان “حزب الله” كحزب شيعي طائفي يشكل عاملاً مساعداً له على ذلك. قامت المخابرات السورية وحزب الله في ثمانينات القرن الماضي بعمليات اغتيال واسعة في صفوف اليسار اللبناني والمقاتلين اليساريين الذي كانوا ينفذون عمليات عسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما قاموا بعمليات تصفية واسعة قتل فيها عدد من رموز الحزب الشيوعي اللبناني السياسيين والمثقفين، مثل
مهدي عامل وحسين مروة وسهيل طويلة وميشال واكد ونور طوقان واحمد المير الايوبي وخليل نعوس. وبذلك، تحولت المقاومة ضد إسرائيل إلى مقاومة طائفية بلون واحد هو لون “حزب الله”ـ وبرعاية من حافظ الأسد ونظامه.
في عام 2005، اغتال النظام السوري جورج حاوي، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني، بمتفجرة وضعت في سيارته. كما اغتال الصحافي السوري الفلسطيني سمير قصير في 2 حزيران 2005، وهو مؤرخ ومثقف وصحافي بارز في جريدة “النهار” وقيادي في “حركة اليسار الديمقراطي” في لبنان.
أحد الأمثلة التي من المستحيل ان ينساها السوريين وهي تدل على علاقة نظامهم بالقضية الفلسطينية، هي فرع “فلسطين”، وهو فرع مخابرات للتحقيق والموت والتعذيب أسسه نظام حافظ الأسد، وكان مهمته اعتقال واستجواب وتعذيب المعارضين للنظام في عهد حافظ الأسد ثم ابنه بشار. ولا يزال هذا الفرع يعمل حتى الآن. هذه أوجه من ارتباط فلسطين لدى السوريين بالرعب والخوف والموت، في ظل نظام لا يمكن تعريفه إلا باعتباره رمزاً للموت والغدر والاغتيال والنذالة
بعد الثورة:
مخيم اليرموك وأحوال الفلسطينيين فيه وفي مناطق أخرى، كان مثالاً واضحاً ومرآة لتطورات مراحل الثورة السورية، من مرحلتها المدنية والسلمية وصولاً على العسكرة ثم سيطرة الجماعات الإسلامية على المشهد العام، إلى جانب نظام بشار الأسد.
في ديسمبر 2012، قصف النظام السوريين مخيم اليرموك الفلسطيني بالطائرات، وقتل في ذلك القصف 25 فلسطينياً من المدنيين. ووفق موقع “أورينت نيوز”، فقد سقط أول شهيد فلسطيني في الثورة السورية واسمه وسام أمين الغول في مدينة درعا جنوب البلاد، برصاص قوات النظام يوم 23/3/2011، حين كان ينقل اثنين من الجرحى السوريين المشاركين في الاحتجاجات.
ويقول الكاتب الفلسطيني ماجد كيالي: “يوم الجمعة 13/7/2012، خرجت تظاهرة فلسطينية في مخيم اليرموك تعبيراً عن التضامن مع ضحايا مجزرة التريمسة (قرب حماة)، التي ارتكبتها قوات النظام والشبيحة في اليوم السابق، وراح ضحيتها حوالي 250 من السوريين الأبرياء. تعرضت هذه المظاهرة السلمية لإطلاق النار من قوات الأمن السوري، كالعادة، ما أدى الى مصرع 8 من الفلسطينيين، أحدهم (أحمد السهلي ـ أبو رامز) والذي أعدم بين أولاده وفي منزله، المجاور لمكان المظاهرة”. وحتى نهاية عام 2012 كان قد سقط 700 فلسطيني مدني ينيران قوات النظام السوري
الهجوم الأخير على مخيم اليرموك في نيسان الماضي، أي قبل أسابيع، كان الأعنف من نوعه وأدى إلى تدمير المخيم بشكل كبير عمرانياً، وإلى هروب من بقي داخله من قبضة النظام. وقد ذكرت صحيفة “الحياة” في 4 مايو الجاري أن “قوات النظام السوري اعتقلت عشرات اللاجئين الفلسطينيين الفارين من الحصار والقصف الذي يستهدف مخيم اليرموك. وقالت مجموعة العمل من أجل فلسطيني سورية في بيان لها، أن القوات النظامية المنتشرة في محيط المخيم اعتقلت 60 لاجئًا فلسطينيًا غالبيتهم من النساء والأطفال أثناء محاولتهم الخروج عبر حاجز العروبة الفاصل بيت المخيم باتجاه بلدات يلدا وببيلا وبيت سحم”.
وحتى عام 2015، جرى توثيق مقتل 17 صحفياً ومصوراً وناشطاً إعلامياً فلسطينياً بنيران قوات النظام السوري. وذكر موقع “نون بوست” مجموعة العمل من أجل فلسطيني سورية بشكل تقريبيّ (604) حالة اعتقال واختفاء قسري لفلسطينيين لاجئين حتى تاريخ سبتمبر 2013، جميعهم معتقلون أو مختفون قسرياً في ظروف مجهولة تماماً.
ونقلت الرابطة الفلسطينية لحقوق الإنسان في سوريا شهادة المعتقل السابق “عدنان المالكي” حول اعتقاله قال فيها: “في أحد الأفرع التابعة لجهاز أمن الدولة في دمشق كان يفارق الحياة كل يومين معتقل بسبب سوء التهوية وضيق التنفس الناتج عن الازدحام والاعداد الكبيرة جدا من المعتقلين داخل زنزانة واحدة
ووثقت الشبكة اﻷوروبية للدفاع عن حقوق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين” “Network ” عمليات قتل تحت التعذيب ل (195) ضحية حتى شهر أيار 2014 من اللاجئين الفلسطينيين الذين تم اعتقالهم في وقت سابق.
وقد سُجلت حالات تعذيب وتصفية جماعية أثناء الاقتحامات التي ينفذها الجيش والقوى الأمنية ومثالها ما حصل مع عائلة ” الظاهر” بتاريخ 26 / 03 / 2013 في منطقة عرطوز في ريف دمشق الغربي حيث تمت تصفية ستة من عائلة الظاهر بعد احتجازهم أحياء
طبعاً، الحركات الإسلامية الجهاديةـ داعش وغيرها، مارست أيضاً أبشع أصناف القتل والانتهاكات بحق أبناء المخيم وأيضاً بحق عموم السوريين في كل سوريا وفي كل المناطق التي سيطرت عليها.
لا تدعي هذه الورقة أنها تقول كل شيء عن أحوال الفلسطينيين السوريين داخل سوريا. ولا عن كل السوريين ومأساتهم. استثمر النظام السوري مثل معظم الأنظمة العربية في فلسطين وقضيتها الإنسانية والسياسية. وهذا كان ضربة لشعوب المنطقة وأيضاً للشعب الفلسطيني وحق الفلسطينيين في الحرية والخلاص من الاحتلال الاسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أراضي عام 1967.
سوف أختم كلامي بملاحظة واحدة، وهي أن الكثيرين، وليس الكل طبعاً، من اليهود الاوربيين، وهم ضحايا الهولوكوست النازي، تحولوا من ضحايا إلى جلادين بحق الشعب الفلسطيني. وأيضاً، هناك فلسطينيون كثيرون تحولوا من ضحايا للعنصرية الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي، إلى جلادين فكريين وثقافيين وحتى عسكريين، بوقوفهم مع الجلاد السوري، النظام، في حربه مع شعبه وحق هذا الشعب في الخلاص والتحرر من الديكتاتورية.
ربما يجدر بنا أن نفكر كثيراً بهذه المسألة السياسية والأخلاقية والإنسانية، بعيداً عن تلازم غير ضروري بين معركة فلسطين ومعركة سوريا، وبعيداً عن الانتقائية والوقوف إلى جانب مجرم وضد مجرم آخر1967
.